fbpx

الأسرة السورية في الحرب

إحدى السيّدات السوريات قالت ذات مرّة إنّها هاجرت إلى الولايات المتّحدة بإرادتها، لكنّها تحملُ سوريا في “بقجةٍ” تفتحها أينما حلّت، والسؤال هنا: هل استطاع السوريون في لجوئهم القسري أو بمعنى أدق في تغريبتهم أن يحافظوا على إرثهم الحضاري في بقجتهم؟ سنواتٌ مرّت على السوريين سيّما جيل الشباب المبعد قسراً عن ذويه، في ظلّ أنماطٍ اجتماعيةٍ مختلفة تغيّرت في ظلّها كثير من العادات والتقاليد الحياتية اليومية والعامة. أسد قصار كاتب وصحافي سوري مقيم في ألمانيا, وهو من الشباب الذين طالبوا بالحرية، لكنّه اليوم لاجئٌ في ألمانيا، يقول: لا أرى أنّ هناك هوية سورية موحّدة للسوريين كلهم؛ فالمعالم الثقافية والاجتماعية والحياتيّة تتنوّع من مدينة إلى أخرى، ومن بيئة إلى أخرى داخل سوريا، حتى داخل البيئة الصغيرة في مدينة وبلدة ما كان هناك نسقين: النسق التقليدي، والنسق الذي خرج عن المنظومة التقليدية، ورسم خطوط حياته كما يحلو له، لكن تبقى هناك سمات عامة شبه ثابتة للهوية السورية إن شئتِ أن تسميها كذلك، كوننا مجتمع محافظ متدين ذكوري، علاقاتنا العائلية قوية، نحب التكلّم بصوتٍ عالٍ، مضيافون …إلخ، هذا قبل حدوث مسألة الهجرة واللجوء. يضيف قصّار: في ما يتعلق بهذه الهوية (السورية) هنا، فنحن أمام ثلاث شرائح؛ الأولى هي السعي إلى الانتقال والتكدّس في مدن شمال الراين وبلداته حيث يكثر السوريون بشكل ملحوظ (المتجول في سوق مدينة بوخوم أو دورتموند أو كينزلكيرشن يكاد يظنّ نفسه لبرهة في الحميدية أو باب الفرج)، لينتج لدينا كنتونات سورية داخل مدن ألمانية، بمعنى مجتمع داخل مجتمع، درجة أنّه من الممكن أن تمرّ أيّامٌ طويلةٌ من دون أن تجدي نفسك مضطرةً إلى الحديث بكلمة ألمانية واحدة فالكل حولك سوريون. وهذه الشريحة من السوريين، وفق قصّار تبرّر خيارها بالتكدّس في منطقةٍ يشكّل السوريون فيها شريحةً واسعة، بالحرص على مسألة الهوية. أمّا الشريحة الثانية  فهي الشريحة التي تركت هويتها لا عن قناعة أو رغبة فعلية في التحرّر، بقدر ما هي رشوة اجتماعية لمن حولهم من ألمان، على مبدأ (شوفوني) كالفتاة التي تنزع حجابها والشاب الذي يشرب الكحول، لا حباً بهذه الأفعال بل لإيصال رسالةٍ إلى الألمان مفادها أنا غير أقراني من السوريين الذين لم يتمكّنوا من الاندماج بينكم، أنا أستطيع الذوبان فيكم. في حين اعتبر قصّار أن الشريحة الثالثة، هي مجموعة كانت تحمل فعلاً على الهوية وتخوض صراعاً اجتماعياً مع القيم والدين والذكورة إلخ، ثمَّ وجدت هذه الشريحة في ألمانيا (إلى حد ما) فضاءً حرّاً يعيشون حياتهم فيه كيفما شاؤوا، من دون أن يضطرّوا إلى خوض صراع أو جدل أو معركة مع مجتمع أو عائلة. قصّار كان أحد الأشخاص الذين استفادوا على حدّ قوله، من “الفضاء الحر” في ألمانيا، لكنّه ليس سعيداً لأنه أراد هذه الحياة وسط هذا الفضاء الحر في سوريا، أمّا ابنه فهو وفق قصّار، يعرّف عن نفسه أنّه ألماني وسوري، ويفضّل التواصل مع الجميع باللغة الألمانية، يقول: يضحكني، والحديث لقصّار عن ابنه، حين يحادث جدته (أمي) على أحد برامج الاتصال باللغة الألمانية، يسترسل ويسترسل في الكلام وتردّ أمي بين كل حين وحين: إي تقبر قلبي مزبوط. الطفل بحسب والده، سعيدٌ بأصدقائه الكثيرين في الروضة ومن أبناء الجيران، وزملاء درس البيانو، ودرس الكاراتيه وأنا سعيدٌ به، سيكبر هنا رجلاً حرّاً من دون أي قالب جاهز ملزم له في أي منحى كان، هذا بحد ذاته قيمة إيجابية. لاجئون سوريون ينقلون معهم تقاليد بلادهم لم يحمل السوري معه فقط أهم حاجاته وأثمنها عندما جرى تهجيره من بيته وحارته ووطنه، بل حمل معه أيضاً حرفته ومهنته وعلمه. وكنوعٍ من الوفاء للماضي وللوطن، أعاد السوريون أو بعضهم صناعاتٍ سوريةٍ كالملابس التي يتميّز بها المجتمع السوري مثل الجلباب والجواكيت الجلدية والعباءات، ففي مصر والأردن وتركيا انتشرت الورشات الصغيرة التي تنتج هذا النوع من الملابس، ولاقت نجاحاً كبيراً بسبب إقبال السوريين على الشراء منها. عبير من حلب تقيم في الإسكندرية في مصر افتتحت ورشة لتصنيع الجلابيب المطرّزة، تقول: كنّا نصدّر هذه الملابس إلى كل من السعودية والإمارات ولبنان، واعتادت السوريات ارتداء الجلابيب المطرّزة في المناسبات وفي الاستقبالات النسائية وعلى الرغم مما مررنا به كله من قسوة الأحوال ما تزال السوريات مصرّات على ارتداء هذا النوع من الملابس، واستطعن إقناع كثير من المصريات بارتداء الجلباب السوري المطرز حتى أصبح هناك نادٍ صغير قريب من الورشة الصغيرة تجتمع فيه السوريات والمصريات يتباهين، أيٍّ منهنّ ترتدي الجلباب الأكثر جمالاً. هذا في مصر، وإن توجّهنا إلى تركيا المجاورة لسوريا وتحديداً مدينة الريحانية الحدودية مع الوطن، نجد أنَّ السوريين فيها يشكّلون أغلبيةَ السكّان. وحين تسير في شوارع المدينة سيّما الرئيسة منها تجد يافطات مكتوبٌ عليها مثلاً: حلويات علاء الدين، ومطعم بركات، حلويات طيبة …إلخ، وكذلك تجد أنَّ روّاد هذه المطاعم والمحال أتراك وسوريون على حدّ سواء. السيّدة ليلى افتتحت مطعماً صغيراً تقدّم فيه وجبات طبخ شعبي سوري كورق العنب والمحاشي والكبب والمليحية والثرود، قالت: جعلنا الأتراك يحبّون أكلنا السوري ويطلبونه. وفي السيّاق ذاته يخبرنا الصحافي السوري خالد الخليل أنَّ الزائر لمدينة اسطنبول التركية وتحديداً منطقة الفاتح، أو العاصمة المصرية القاهرة، وتحديداً 6 أكتوبر سيجد نَفَسَاً سورياً متميّزاً عن المجتمع المضيف له، وفي أغلب الأحيان يكون هذا النفس إيجابياً. السوريون اللاجئون كما يرى الخليل، لم يستطيعوا الاندماج بالمطلق بالمجتمعات المضيفة لهم، لكنّهم اكتسبوا عادات وخبرات اجتماعية بشكلٍ سريع من المجتمعات ذاتها. عادات الزواج وتقاليده لدى السوريين هي الأكثر حساسية في الاندماج يلعب الأهل في مجتمعاتنا العربية معظمها الدور الأهم والأساسي في موضوع الزواج، بدءاً من اختيار الشريك الأكثر ملاءمة لأبنائهم وبناتهم، وصولاً إلى التفاصيل كلها الصغيرة والكبيرة التي ترافق الإعداد لعقد القران. وفي ظل الشتات الذي يعيشه السوريون أصبح من الصعب أن يلعب الأهل هذا الدور بشكل كامل، فالأهل بعيدون عن أبنائهم وأصبح موضوع الزواج من أكثر الصعوبات التي يعيشها السوريون فكيف للشباب بمفردهم أن يطرقوا الأبواب باحثين عن شريكتهم؟ تقول الباحثة الاجتماعية رندا صالح: لعبنا نحن كجيلٍ أكبر دور الأهل حتى لا نفقد عاداتنا وتقاليدنا السورية جماليتها، كنّا نقوم بهذا الدور مع هؤلاء الشباب المقبلين على الزواج، نزور أهل العروس ونتحمّل الترتيبات، وهناك كثير من الشباب يصرّون على أن يشاركهم أهلهم تلك التفاصيل من خلال مواقع التواصل الاجتماعي التي تؤدي ولو جزءاً بسيطاً من هذا الواجب والالتزام. تضيف رندا: عندما قرّرنا أنا ومجموعة من السيدات السوريات افتتاح جمعية أمهات، كانت فكرة استوحيتها من شقيق زوجي الذي طلب مني أن أسافر من ألمانيا إلى فرنسا لأخطب له إحدى الفتيات السوريات التي رفض أهلها تزويجه إياها من دون وجود أحدٍ من أقاربه، لأن أغلب الأهل يقولون إنّ وسائل التواصل التي سهلت قضايا الزواج في المغترب  كانت سبباً لاختيارات خاطئة من دون أن يكون هناك أحد من الأقارب أو الأصدقاء من الجانب النسائي ليرى العروس أو العريس عن قرب. وعلى الرغم من قلّة الإمكانات -تستطرد رندا- فهناك ترتيبات لا يمكن أن نتجاوزها، من حفلة الخطبة والملابس الخاصة بها وحفلة العرس والأغاني التي تميز أفراحنا السورية. هي خطوطٌ حمراء لا يمكن تجاوزها على الرغم من كل المعاناة ما زال السوريين يحافظون على المعايير الاجتماعية الخاصة بالزواج ولو بحدها الأدنى أينما كانوا. عادات السوريين في الزواج مثلاً ليست كلّها صحيحة وسليمة، وكما أنَّ اللجوء إلى البلدان الأخرى حدَّ من العادات التي تعتبر في الأغلب الأعم جيّدة، غيرَ أنّه ألغى عاداتٍ كانت في رأي باحثين اجتماعيين تنخر المجتمع من داخله. السيّدة زينب العمر تقول: من بعض العادات السورية الخاطئة، هي زواج القاصرات الذي ينتشر في المناطق الريفية والأحياء القديمة للمدن السورية، هذا الزواج انتهى أو يكاد هنا في تركيا، تحت طائلة المحاسبة القانونية. مجتمعياً، غيّر السوريون، بحسب العمر عادات لدى الأتراك فهم لا يحبّون السهر وكانوا في أولى سنين اللجوء السوري إليهم ينامون باكراً، ولا تكاد تجد في العاشرة ليلاً بقالاً. أمّا اليوم، تؤكّد زينب، أنّ الأتراك باتوا يسهرون أسوةً بالسوريين المحبّين للسهر. خاتمة: الدكتور محمّد الحايك، وهو مقيمٌ في بولندا منذ أكثر من 20 عاماً يقول: هناك مثل بولوني يقول: “القروي خرج من القرية، والقرية لم تخرج منه”، هذا المثل ينطبق على السوريين تماماً لقد خرجنا من سوريا ولم تخرج سوريا من داخلنا بما فيها من عادات وتقاليد. صحيحٌ أنّنا، والحديث هنا عن شريحة واسعة من السوريين، أخذنا كثيراً من الطباع التي ترفد جماليتنا السورية، بغضّ النظر إن كنّا متعلّمين أو غير متعلّمين، فأغلب السوريين يحملون في داخلهم إرثهم الحضاري من عادات وتقاليد هي بصمة المجتمع السوري. مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي©.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى